Menu

أمريكا اللاتينية: ترفضُ أن تكونَ الحديقةُ الخلفيّةُ لليانكي       

اسحق أبو الوليد

نُشر هذا المقال في العدد 28 من مجلة الهدف الإلكترونية

بعدَ مغادرةِ الرئيسِ الجمهوريّ الأمريكيّ السابق، دونالد ترامب، للبيتِ الأبيضِ ومجيءِ ساكنهِ الجديد الديموقراطي جو بايدن، ساد الاعتقادُ عندَ قطاعٍ واسعٍ من السياسيّين وصنّاعِ القرار في معظمِ بلدانِ العالم، أنّ الرئيسَ بايدن سيعمل على "القطع" مع سياساتِ سلفِهِ "ونهجِهِ"، وسيُحدث شيئًا من الانفراجِ في العلاقاتِ الدولية، بما يحقّق، ولو القليل، من العدالةِ لبعضِ الدول التي شهدت علاقاتُها مع إدارةِ ترامب توتراتٍ وأزماتٍ طالت جوانبَ عدّةً، بما فيها جانبُ الثقةِ والتعاون، كما حصل حتّى مع دولٍ وحكوماتٍ تربطها علاقاتٌ استراتيجيّةٌ بالولاياتِ المتّحدة، وشريكةٌ لها في أحلافٍ عسكريّةٍ وسياسيّة. لقد أثبتت التجربةُ والأحداثُ التاريخيّة، أن النظامَ السياسي الأمريكي، وما يسمى بالديموقراطيةِ الأمريكية، هو أكثرُ الأنظمةِ الرأسماليّةِ رجعيّةً، بل فاشيّةً، كما وصفه الأمينُ العام للحزبِ الشيوعي الأمريكي الرفيق الراحل غاس هول، في مقابلةٍ أجريت معه عامَ 1981، ولا يختلف في ذلك الحزبين، الوحيدين تقريبًا، الجمهوريّ والديموقراطيّ، اللذينِ يقرّرانِ استراتيجيّةَ الدفاعِ عمّا يسمى بالمصالحِ الحيويّة، والأمنِ القوميّ للولاياتِ المتّحدة، ويحدّدانِ الوسائلَ والأدواتِ التنفيذيّةَ التي يجبُ استعمالُها في كلِّ مرحلة، الشّيءُ الذي يمكن أن يصحبَهُ بعضُ التعارضات بين الحزبين، لكنّها لا تؤثر سلبًا على النهج المشترك، أساسِ التعاونِ الاستراتيجيّ بينهما، ولا تعرقلُ البرامجَ الخاصّةَ لكلا الحزبين .
أمريكا اللاتينية، تعدُّ المنطقةَ الاستراتيجيّةَ الأهمَ للولاياتِ المتّحدة، التي تتولّى الدفاعَ عن نفوذِها فيها بشكلٍ مباشرٍ وتتعاملُ معها منذُ عقودٍ " كحديقةٍ خلفيّةٍ" لها، تصلُ إلى درجةِ اعتبارِها "ملكيّتَها الخاصّة" التي بموجبِها، لا يحقّ لأيٍّ من أنظمةِ دولِها إقامةُ علاقاتٍ تجاريّةٍ واقتصاديّةٍ، وحرّمت عليها إقامةُ أيِّ علاقاتٍ أو تحالفاتٍ عسكريّةٍ مع قوًى، يعدّها البيتُ الأبيض عدوًّا أو منافسًا لنفوذِهِ وهيمنتِه. لهذا اغتيل المرشحُ اليساريّ التقدميّ الكولومبيّ غايتان عامَ 1948، الذي كان الأوفرَ حظًّا في سباقِ الرئاسة، كي لا تصبحَ كولومبيا "قاعدةً سوفياتيّة"، وحوصرت الثورةُ الكوبية، وكوبا والشعب والدولة؛ لأنّها أعلنت الاستقلالَ والسيادةَ والاشتراكيّة، ورفضَها لسياسةِ التبعيّة، ودعمَها للقوى والشعوبِ كافةً، التي تطمحُ للسيرِ في هذا الطريق، وحوصرَ النظامُ اليساري في شيلي منذ انتخابِ الشعب سلفادور الليندي رئيسًا عامَ 1970، الذي اغتيل عامَ 1973 ، بعد أن فشلت المحاولاتُ التي بذلها البيتُ الأبيضُ كافةً في تلك الفترةِ لاحتوائِه، ويعدّ هذا التدخلُ الأكثرَ سفورًا في أمريكا اللاتينيّة، الذي ترافق مع الإعلانِ الأكثرِ صراحةً ووضوحًا لدوافعَ وأسبابِ عمليّةِ الاغتيالِ تلك، التي نفذتها طغمةٌ عسكريّةٌ فاشيّةٌ تحت إشرافِ وتخطيطِ المخابراتِ المركزيّة الأمريكيّة (سي أيْ إي ) والموساد الصهيوني بقيادة أغوسطين بينوشت وزير الدفاع الشيلي في ذلك الوقت. جاء ذلك في تصريحٍ لهنري كيسنجر وزيرِ خارجةِ الولايّاتِ المتّحدة في ذلك الحين "لا يمكن أن نسمحَ بأيّ نفوذٍ أجنبي في حديقتِنا الخلفيّة؛ لأنّ أمريكا اللاتينية ليست مهمّةً للولايّاتِ المتّحدةِ فقط، اقتصاديًّا، وجغرافيًّا، بل أكثرُ من ذلك. إنها ضروريّةٌ من أجلِ فرضِ قيادتِها على العالم، والولاياتِ المتّحدةِ لا تستطيعُ أن تقودَ العالمَ إن خسرت حديقتَها الخلفيّة، أي أمريكا اللاتينية". إنّ هذهِ العقيدةَ أو هذا المبدأَ هو الناظمُ لبرامجَ الجمهوريين والديموقراطيين وسياساتِهم في هذا الجزءِ من العالم، ويتسابق الحزبانِ على تطبيقِ الإجراءاتِ الأكثرِ عدوانيّةً وفاشيّةً  ضدَّ أنظمةِ الدولِ وحكوماتِها، التي تناضل من أجلِ الخروج من دائرةِ النفوذِ والهيمنةِ الإمبرياليّة، وتطمح لتحقيقِ استقلالِها وتعزيزِ سيادتِها. لذا لم يكن حظُّ ونصيبُ نيكاراغوا ونظامُها التقدميّ يختلف عن ما واجهته كوبا، أيضًا أعلنت الولاياتُ المتّحدةُ عداءَها المبكّرَ للثّورةِ البوليفارية التي فجرها وقادها الرئيسُ الراحل هوغو شافيز، التي عانت – وما زالت – تعاني من العقوباتِ والحصارِ والتآمر، وهذا ما حدث ويحدث للحكوماتِ التقدميّةِ كافةً في هندوراس والسلفادور بوليفيا والإكوادور والأرغواي والبراغواي والأرجنتين والبرازيل، حيث أطيح بحكوماتِ هذه الدولِ وعادت إلى حكمِ اليمين الرجعي الفاشي، عدا بوليفيا التي عاد إليها اليسارُ من جديد، وممّا لا شكَّ فيه، أنّ هذا ما سيواجهُهُ الرئيسُ اليساريّ المنتخبُ في البيرو الذي فاز بالانتخاباتِ الرئاسيّة، وواجهَ خطرَ عدمِ الاعترافِ بفوزهِ وتزويرِ النتائج، لولا التحركُ الشعبيُّ الفوريّ، حيث زحف مئاتُ آلافِ الفلاحين وكادحي المدنِ إلى العاصمةِ ليما للدفاعِ عن الرئيسِ المنتخب، ورفضِ التزويرِ مما فرض على اليمينِ الرجعي وأسيادهِ الخضوعَ لنتيجةِ صناديقِ الاقتراع. وكما تثبتت التجارب، خاصةً هنا في القارّةِ اللاتينيّة، أنّ الصعوبةَ الأكبرَ لا تكمن في إمكانيّةِ الوصولِ السلمي إلى السلطة، بل في الدفاعِ عنها وتحويلِها إلى أداةٍ لقيادةِ عمليّةِ التغييرِ الثوريّةِ، وإجراءِ التحوّلاتِ الضّروريّةِ، خاصةً الاقتصاديّة لبناءِ الدولة الجديدة، والمجتمعِ الجديد، لذا فالسلطةُ الجديدةُ تجد نفسَها في صراعٍ طبقيٍّ معلنٍ وصريحٍ، "وحرب" لا تخاض فقط في الشارع، بل في المصانعِ والحوانيتِ والبنوك والمزارعِ تُفعّل خلالَها القوى الإمبرياليةُ استراتيجيّتَها الهجوميّةَ التي تبنتها منذُ أكثرَ من مئتي عام، أي منذُ قيامِ أوّلِ سلطةٍ عماليّةٍ (كومونة باريس)، حتى الآن حافظت خلالَها القوى الإمبرياليةُ على هدفِها المركزي والأساسي، المتمثّل بهزيمة البديلِ الثوري الاشتراكي، أي البديل الاجتماعي الاقتصادي القائم على قوى إنتاجٍ وعلاقاِت إنتاجٍ تنهي اضطهادَ واستغلالَ الإنسان من قبلِ أخيه الإنسان، أي إنهاء الأساس المادي الذى قام عليه النظامُ الرأسمالي، وفي سياق هذا الصراعِ الدامي أحيانًا، طوّرت قوى الإمبريالية، خاصةً، الولايات المتّحدة من أساليبِها الهجوميّة، ونوّعت حروبَها، وراكمت خبراتِها؛ مما سمح لها أن تكسبَ معركتَها الرئيسيّةَ ضدَّ الاتحادِ السوفييتي السابق، ولكنها لم تستطع أن تحافظَ على زخمِ تطوّرِ قواها المنتجة، للحفاظ على موقعِها كقوّةٍ أولى مهيمنةٍ "تقود" العالم، ووجدت نفسَها مرغمةً للدخولِ إلى مرحلةِ الدفاعِ عن نفسِها في الساحةِ الاقتصاديّة، التي عمليًّا وواقعيًّا يُقرَّر على أرضها مصيرُ القوى المتصارعةِ في ساحاتٍ ومجالاتٍ أخرى، لهذا ستعمل بكلِّ طاقتِها السياسيّةِ والدبلوماسيّةِ (الجزرة) والترهيبِ والتخريبِ والتآمرِ (العصا) للحفاظِ على أمريكا اللاتينية (حديقتِها الخلفيّة) تحت سيطرتِها؛ لأنّها إن خسرتها تخسر أحدَ أهمِّ مصادرِ هيمنتِها الماديّةِ وليس المعنوية فقط. أمّا القوى الثوريّةُ التقدميّة التي وصلت إلى السلطة، وهي تحمل رايةَ التحرير والتحرّر والبناءِ الاشتراكي، منذ ثورةِ أكتوبر الروسيّة بقيادةِ لينين ، لم تستطع أن تحقّقَ النصر النهائي على القوى الطبقيّةِ المحليّة، البرجوازيّة المتخلّفة، وكيلة الاستعمار التي أطاحت بها قوى الثورة، وأخرجتها من السلطة؛ بسببِ ترابطِها العضوي مع المركزِ الرأسماليّ العالميّ الذي يموّل نشاطاتِها المعاديةَ للثورة، ويوفّر لها الحمايةَ الماديّةَ والمعنويّة؛ لتقومَ بدورِ الأداةِ التنفيذيّةِ لمخططاتِه، معتبرًا أنّ أيّ صدامٍ معها هو اعتداءٌ على حريّةِ الرأي وحقوقِ الإنسان، أي على مصالحهِ الحيويّة؛ بهدفِ إعادةِ تأهيلِها وتقويتِها؛ كي تعودَ للحكمِ من جديد. وقد عبّر عن هذهِ الاستراتيجيّة بكلِّ وضوحٍ الرئيسُ الديموقراطي السابق باراك أوباما في مقابلةٍ ختم بها حملتَهُ الانتخابيّةَ الثانيةَ نهايةَ عام 2011 بالقول: "عندما ذهب جورج بوش إلى الحربِ على أفغانستان والعراق ترك فراغًا في أمريكا اللاتينية عبأتهُ الثورةُ البوليفارية وشافيز، مما يفرضُ علينا كمهمةٍ عاجلةٍ ومباشرةٍ إخراجَ شافيز وأصحابَهُ، وإعادةَ هذه الأماكنِ إلى ما كانت عليه"، وكان قد أنجز جزءًا من هذهِ الاستراتيجية بالإطاحةِ بالرئيس سيلايا في هندوراس عام 2009، التي توجد بها أهمُّ القواعدِ العسكريّة الأمريكية، وقبل رحيلهِ أطيح برئيسةِ الأرجنتين كرستينا كشنير عام 2015، وبالرئيسةِ البرازيليّةِ ديلما عام 2017، بذريعةِ تورطهنّ في الفسادِ والرشوةِ والاحتيال، مما وضع عمليّةَ التغييرِ التي كانت جاريةً في القارّةِ في مأزقٍ، خاصّةً، في ظلِّ غيابِ مفجّرِها ودماغِها المحرّكِ الرئيس الفنزولي شافيز، الذي رحل في آذار عام 2012، وتوالت الانتكاساتُ حيث عادت القوى اليمينيّةُ للحكمِ في معظمِ دولِ القارّةِ، مما وضع دولَ المنشأ، كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا في مأزقٍ حقيقيٍّ، ستكون نتائجُهُ وخيمةً؛ بسببِ تفاعلِ العقوباتِ مع الفسادِ الذي بات ينخرُ الأساساتِ التي شُيّدت عليها الأنظمةُ التقدميّةُ، خاصّةً، في فنزويلا .
رغمَ كلِّ ما يحدث، ورغمَ المشهدِ السوداويّ وما يحقّقه معسكرُ الإمبرياليّة، وقوى الثورةِ المضادّةِ من انتصاراتٍ وإنجازات؛ تبقى أمريكا اللاتينية مهدَ الثوراتِ الشعبيّة الأصيلة، غيرِ الملوّثةِ بالمذهبيّةِ أو العشائريّةِ والإقليميّة، وتقومُ وتفشلُ أو تنتصرُ في الحقلِ الحقيقيّ للثورة، أي الحقل الاقتصاديّ السياسيّ والفكريّ، وهذا يفتحُ الأفقَ والإمكاناتِ لتبديلِ مركزِ العمليّةِ الثوريّة، ولكن ليس للقضاءِ عليه، وما يحصل في البيرو من صعودٍ للقوى التقدميّةِ واليساريّة، التي تعدُّ تاريخيًّا من أقوى معاقلِ اليمينِ الرجعيّ القمعيّ في القارّة وأهمِّها، دليلٌ ملموسٌ على ذلك، وعلى القوى التي شكّلت التحالفَ للوصولِ للحكمِ، أن ترسّخَهُ على أساسٍ سياسيٍّ تنظيميٍّ يضمنُ قيامَ جبهةٍ وطنيّةٍ تعزّزُ المشاركةَ الشعبيّةَ وتستفيدُ من تجارِبِ الآخرين وأخطائِهم، خاصّةً في التعاملِ مع المؤسّسةِ العسكريّةِ التي لموقفِها وسلوكِها دورٌ حاسمٌ في تقريرِ المستقبل، خاصةً في البيرو التي للجيشِ فيها تاريخٌ حافلٌ من القمعِ والبطشِ والعلاقاتِ الوثيقةِ بالمؤسّستينِ العسكريتيّنِ: الإمبرياليّة والصّهيونيّة.